الذي يريد أن ينال المرتبة الروحانية ؛ لابد أن يركب الصعب ، ويتحمل المكابدة والمجاهدة في الله ، والمجاهدة في هذا المقام تكون للمشاهدة ، وليس للأجر والثواب ، فيتفضل عليه الله وينزله في منازل النبيين والمرسلين ، ويوضع في قائمة من القوائم التي جمعت لسيد الأولين والآخرين لماذا جمعهم له ربنا؟ حتى يعرفنا أن كل مقاماتهم وكل درجاتهم وكل منازلهم وأممهم جمعت في قبضته صلوات الله وسلامه عليه هو بعد ذلك وقبل ذلك كما قال عن ذلك {إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي، وفى رواية: اللَّهُ المُعْطِي وَأَنَا القَاسِمٌ}[1] {كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء} لماذا هؤلاء وهؤلاء ؟ هؤلاء الأولى للسابقين ، والثانية للاحقين ، لأن هؤلاء رعيته ، وهؤلاء رعيته {كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ} وهذا العطاء صعب؟ قال : لا.{وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً}الإسراء20 غير محظور أبداً ، وماذا ثمنه؟ ، قالوا : بيعوا النفوس لربكم وتقربوا بنفيسكم من غير ما تمويه فالموضوع سهل جداً ، فجمعهم له ، حتى يعرِّفنا أن الكلَّ عنده ، كلَّ كشوف المقامات ، والترقيات ، والدرجات ، من أين؟ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى الكشوف التي كتبت قبل ذلك؟ ظلت موجودة ، حتى صدَّق عليها هو {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} المائدة46 ماذا تعني بين يديه؟ تعنى الذين جاءوا قبله ، فهو الذي صدَّق عليهم ، فجاءوا حتى يصدِّق على الكشوف السابقة ، واعتمدت الدرجات في هذه ليلة الإسراء والمعراج ، وحتى يعرِّفنا أن الذي سينزل في هذه المنازل ، وكل ولىِّ على قدم رسول أو نبىِّ , من الذي سينزلهم؟ ، الذي أنزل الأولين ، هو الذي سينزل الآخرين ، وهو سيِّد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه : أبوهم أنت ياسر الوجود ولا فخر وسرهم قبل المعاينة صفوا وراءك إذ أنت الإمام لهم قد بايعواعلى صدق المتابعة فكان الاعتماد كله ، حفل توقيع النسخ المعتمدة الذي كان في بيت المقدس ، حفل توثيق الدرجات والمقامات التي نالوها من الله ، كان هذا الحفل المنشود الذي حضره سيِّد الوجود صلوات الله وسلامه عليه ، وبعد هذا ثبتت الأحوال ، وأصبح من يريد منازل الرجال ، هذا هو الطريق المفتوح أنت باب الله أي امرئ أتاه من غيرك لا يدخل فلا توجد سكة غير هذه , فالدرجات هذه ، كلها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو والحمد لله ، هنانا جميعاً ، وجمَّلنا جميعاً بمراتب خصوصيَّة ، وأسرار ذاتيَّة ، ومقومات روحانيَّة ، والحمد لله كلكم تلبسونها ، لكن من الفضل أنهم ستروها عنكم ، لماذا ؟ حفظاً للقلوب ، حتى لا تقع في الذنوب والعيوب ، فتحرم من هذا الوهب الذي ألبسه لها حبيب الله صلوات الله وسلامه عليه ، لأنه من طبيعة الإنسان إذا عرف من هو ، من الممكن أن يغتر ، وممكن أن يعجب ، وممكن أن يكسل أو يتراخى ، فمن أجل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر عن أهل الخصوصية خصوصيتهم ، ولم يكشف لهم عن مزيتهم ، ما دامت بشريتهم موجودة ، متى يكشف لك الخصوصية؟ إذا استطعت وأنت في الدنيا ، أن تنسلخ من البشرية ، سترى مالك عند الله ، لكن في هذه الحالة ستكون قد مت ، والذي مات بماذا يفتخر؟ أو بماذا يزهو؟ أو بماذا يغتر؟ انتهت ، وقد دخلت في قول الله {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} الأنعام122 فهذا ستر من الله ، فلا تطلب المنازل الدنيا ، وأنت في المنازل العلوية ، وأعلم علم اليقين أن المنازل العالية كما بينها إسراء الحبيب ، لا تنال إلا بفضل من الله ، وبكرم من الله ، وبمحض العطاء من حضرة الجود الإلهي ، فإن أهل المجاهدات وقفوا عند البيت المعمور ، أما أهل المحبة فقد تدلى لكل منهم رفرف العناية ، يعني تدلى له فضل الله ، ونزل له كرم الله ، وأحاطه من كل جوانبه ، ليدخل في قول الله {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} البقرة105 لأنه لم ير لنفسه عملاً ولا جهاداً ، ولم ير لنفسه شيئا البتَّة ، بل رأى الأمور كلها من الله ، وبالله ، وإلى الله ، فحباه الله بفضله ، ورقَّاه ، وأدناه ، وأعطاه ، وهذا باب الأفراد ، أما أهل المنازل التي ذكرناها ، فلا زال في نفوسهم وجودٌ ، ولا تزال بقية من النفس موجودة ، ولذلك تجد أن الحديث يذكر يوم القيامة ، ويذهب الشفعاء فكل واحد منهم سيبيِّن بقية من نفسه ، يقول : لست صاحب هذا المقام ، لماذا؟ ، كانت نفسي موجودة في المكان الفلاني ، أليس كذلك؟ عملت كذا من نفسي ، إذاً من الذي ليس له نفس؟ ولا شئ أبداً ؟ هو واحد ، ويوجد واحد أيضاً نفسه لم تكن موجودة ، لكن لم يكن المقام الأكمل من هو؟ سيدنا عيسى لكن ليس هذا الأكمل ، لكن الأكمل الذي أدى كل ما عليه ، حتى للجمادات ، حتى للطيور ، حتى للحشرات ، حتى للحيوانات المتوحشات ، لم يترك أمراً في الدنيا إلا ووضع أساسه ، لم يخرج من الدنيا إلا وقد أرسى جميع الأسس ، جاء بالجنِّ وقال لهم : هذه حدودكم {تَسْكُنُونَ البِحَارَ ، وَ القِفَارَ ، وَ الدُّورَ الْمَهْجُورَة ، وَتأكُلُونَ العِظَامَ ، وَ الرَّوَثَ ، وَفَقَطْ}[2] ثم بعد ذلك جاء بالذئاب ، فقد كان جالساً هو وأصحابه ، وإذا بالذئاب مقبلون عليه ، فقال لهم {وَهَذَا وَفْدُ الذِّئَابِ جَاءَ إليْكُمْ - أنا أرسلت إليهم فحضروا ، ما هو رأيكم ؟ - إنْ شِئْتُمْ أَنْ تَقْسِمُوا لَهَا مِنْ أَمْوَالِكُمْ مَا يُصْلِحُهَا أَوْ تُخَلُّوهَا فَتُغِيرُ عَلَيْكُمْ – و فى رواية : إن شِئْتُمْ أَضَفْتُمُوهُمْ وَلَمْ يُؤْذوكُمْ ، قالوا : وكيف نضيفهم يا رسول الله؟ قَالَ : تَـذْبَحُونَ لَهُمْ فَيَطْعَمُون ، قالوا يا رسول ، نـذبح لهم من أنفسنا ويأكلون ونحن ننظر إليهم؟ قال: نَعَمْ ، قالوا: لا نرضى بذلك ، فَأَوَمَأ إلىَ الذِّئَابِ أنْ اخْتَلِسُوا مِنْهُم}[3] أي خذوا سرقة ، فوضع الحد ، حتى وضع الحدود القاطعة فقال للذئاب {إذا رَأيْتُمُوهُم أصْلَحَوا مَا بَيْنَهُم وَبَيْنَ اللهِ ، فَإياكُمْ أنْ تَعْدُوا عَلَيْهِمْ أُتْرُكُوهُمْ ، وَإذَا رَأيْتُمُوهُم تَرَكُوا حُدَودَ اللهِ ؛ فَافْعَلُوا فِيهِم مَا شِئُْمْ} فالذين كانوا عند النبي – من وفد الذئاب - حضروا هذه البيعة ، فكيف وصل هذا الكلام إلى من كانوا في عصر سيدنا عمر بن عبد العزيز؟ ونفَّذوه ، كيف؟ فعندما رأى الرعاة أن الذئاب تعدو على غنمهم ، عرفوا أن الرجل {عمر بن عبد العزيز} قد مات ، كيف عرفوا؟[4] لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتمَّ أساس كل شئ قبل مغادرته الحياة الدنيا ، أعطى لكل حقيقة أمرها الذي حدده المولى ، وهذا موضوع لا نستطيع أن نفصله ، لأنه لا تتحمله العقول ، كيف ألهم كل سماء بما فيها بأمرها؟ وأوحى في كل سماء أمرها ، وكيف أودع في كل حقيقة ما يطلبه المولى منها؟ ولها؟ وكيف بين لكل حقيقة في الأكوان الطريقة الصحيحة التي تتعبد بها لله؟ سر قوله سبحانه {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} الإسراء44 {1} رواه البخارى عن معاوية رضي الله عنه {2} رواه أبو نعيم عن ابن مسعود والزبير بن العوام وأبو هريرة {3} رواه البيهقي وأبو نعيم عن حمزة بن أسيد ، والدرامي وابن منيع في مسنده، وأبو نعيم عن طريق شمر بن عطية {4}الطبقات الكبرى لابن سعد ، وعمدة القرى لبدر الدين العينى ، وفى تاريخ دمشق لإبن عساكر |