لا تصدق كل ما يقال إنه إعجاز علمي
أحد أنواع تفاسير القرآن التي ظهرت خلال القرنين المنصرمين هو التفسير العلمي للقرآن. و المقصود بالعلمي نسبة إلى ما توصل له الإنسان من فهم للطبيعة و الحياة من خلال الدراسات العلمية التجريبية. و ممن ألف في هذا المجال: علماء عرب أمثال طنطاوي جوهري مؤلف: الجواهر في تفسير القرآن (١٩٣٥ م)، و أجانب أمثال: موريس بوكاي، الطبيب الفرنسي مؤلف كتاب: العلم و القرآن و التوراة و الإنجيل (١٩٧٦م) الذي يعد من أهم المحاولات لربط اكتشافات حديثة بآيات القرآن و مقارنتها بما ورد في التوراة و الإنجيل.
و اليوم نقرأ عن الإعجاز العلمي في القرآن الذي يعد جزء من التفسير العلمي للقرآن (و ليس العكس)- في كل فروع العلوم الطبيعية تقريبا، حتى أصبحت المكتبة العربية المقروءة و المسموعة ثرية بهذه المادة. و الإعجاز العلمي له تعريفات كثيرة تتلخص فكرتها أن بعض الآيات و الأحاديث و بناء على التفسير العلمي لها؛ فإنها تتناول أمورا لم يكن بمقدور الناس في عصر النبوة معرفتها لافتقارهم للوسائل العلمية المتاحة اليوم، و بالتالي فهي تعد من الإعجاز القرآني.
فالتفسير العلمي و الإعجاز العلمي كلاهما مجال تختلف فيه الآراء، ولا سيما بين المتخصصين (سواء في العلوم الشرعية أو العلوم الطبيعية). فبينما يرى بعضهم وجود رصيد هائل من قضايا الإعجاز التي تكتب فيها المجلدات و تنال فيها الدرجات العلمية، و بعضهم يتبسط في تفسير القرآن علميا ليربط كل ما توصل إليه العلم اليوم بالقرآن. فإن آخرون يرون أن المسألة فيها مبالغة (و أحيانا افتراء). و لكن هناك اتفاق -من حيث المبدأ- على أن المسألة تتطلب تحريا و حرصا شديدا و فهما سليما للظواهر و النظريات العلمية بالإضافة إلى فهم سليم لتفسير القرآن و ضوابطه قبل أن يربط المرء بين ما توصل إليه العلم و ما ذكر في القرآن. على أية حال، ما نراه في أرض الواقع لا يعكس أيا من تلك الضوابط -إلا ما رحم ربي-.
من المهم أن نعي أن تلك المقارنات و الروابط و التفسيرات هي اجتهادات شخصية معظمها يفتقر إلى الدقة. و تحديدا ما يتعلق بربط القرآن بنتائج أو تصورات النظريات العلمية. أما الحقائق العلمية التي لا لبس فيها فهي شأن آخر، حيث إن التوافق بين ما ورد في القرآن أو الكتب السماوية السابقة مع الحقائق العلمية هو أمر بديهي إذا كان القرآن هو كلام خالق هذا الكون. و هناك مثال على التفسير الحديث للقرآن الكريم و تحديدا الآيات التي تناولت مراحل تكون الجنين، حيث تناول هذا الأمر عالم الأجنة الكندي الدكتور كيث مور Keith L. Moore الذي يرى أن ما ورد في القرآن عن تطور الجنين يمكن أن يفسر على ضوء ما توصل إليه العلم الحديث.
و لكن هناك كثير من الاجتهادات الخاطئة التي إما أنها ناتجة عن سوء فهم أو تأويل غير صحيح (سواء للآيات أو النظريات) بسبب عدم الاختصاص -في الأغلب الأعم- أو أحيانا -و هذا لا يقل خطورة عن السابق- الخلط بين وجهة نظر الكاتب و بين الدين و قوانين الطبيعة. و المؤسف أن كثيرا من عامة الناس (بل بعض المتخصصين في المجالين السابقين) ينجرفون مع تيار الدعم المطلق -و غير المدروس- لكثير من الإدعاءات التي يطلقها بعض القائلين بالإعجاز العلمي في القرآن. مما يزيد الأمر سوءا، سواء من ناحية فتح المجال لغير المسلمين لمهاجمة القرآن و الإسلام، أو من ناحية تكوين تصورات خاطئة عن القرآن في أذهان بعض المسلمين أنفسهم.
إن قضية عدم الاختصاص و تحري الدقة و الانجراف غير الواعي لهذه الموجة تسببت في استخدام القرآن ككتاب مرجعي في العلوم الطبيعية و محاولة ليّ أعناق الآيات -كما يقال- لكي تتوافق مع النظريات الحديثة. و دليل أن الأمر لا يعدو أن يكون رأيا شخصيا أنك ستجد تناقضات بين أقوال كثير من القائلين بالإعجاز العلمي أو الذين يحاولون الربط بين الدين و العلوم بشكل عام. فمثلا ستجد من يدعم التطور و من ينفيه و كلاهما يستند إلى القرآن.. و كذا الانفجار العظيم، و كذا حركة الكواكب.. بل ستجد من يحسب لك سرعة الضوء، و نسبة الأرض و البحر، و غيرها من الأعداد التي قد لا يمثل بعضها أي إضافة أو ربط صحيح . بل يتحدث بعضهم عن الثقوب السوداء و أنها هي الجوار الكنس المذكورة في القرآن أو الطارق، و هي تصورات مبنية على فهم خاطئ و شائع عن الثقوب السوداء -نناقشه لاحقا في هذه المقالة-.
فيجب أن نعي جميعا أنه هناك فرق بين النظريات أو الرصد التجريبي الذي قد يتطور مع دقة الآلات و بين الحقائق العلمية المثبتة بالتجربة و الرصد، و التي قد يقابلها آية في القرآن مباشرة لا تحتاج في تفسيرها إلا لمعناها الظاهر. مثال ذلك: قوله تعالى "و السماء بنيناها بأيد و إنا لموسعون" . أحد التفسيرات للشيخ السعدي رحمه الله قال أن الله سبحانه و تعالى يوسع السماء. و من خلال رصد الكون نجد أن الكون آخذ في التوسع. لا يوجد عالم فلكي أو فيزيائي موثوق يقول بغير ذلك. كل الأدلة تؤكد هذه المعلومة. إذن فهي في مرتبة حقيقة كونية. فالذي ينبغي أن نشدد عليه هو أن القرآن ليس كتاب مرجعي في الفيزياء أو الفلك أو العلوم الطبيعية. فلا ينبغي أن نأول كلام الله على هوانا. فالعلوم الطبيعية و إن كانت وصفا صحيحا و دقيقا للطبيعة فإنها نتاج بشري، فينبغي أن نفرق بين حقيقة يراها الجميع و يتفق عليها الجميع.. و بين النظريات التي تحاول -جنبا إلى جنب مع التجربة- أن تصف الواقع دون أن تفسره أن توعزه إلى سبب أحيانا ،
على سبيل المثال الذين ربطوا بين أحداث ١١ سبتمبر و آية في القرآن، بالتأكيد هناك أشخاص صدّقوا هذا الرابط، و هذا أمر مخز و خارج عن حدود العقل! تصديق هذه الأمور يدل على السذاجة. كذلك مسألة الأرقام و توافق بعض أعداد تكرار بعض الكلمات في القرآن مع ما يقابلها في الطبيعة. و هذا التوافق ليس شيئا خارقا، و لا يبرر المبالغة و الإفراط في تبجيله و اعتباره أنه الدليل القاطع و البرهان الذي لا يرد و الطريق الأوحد لبرهنة كلام الله.
كل هذه مبالغات. فأي كتاب قد تصدف فيه أرقام مع الواقع. مثلا، عدد أيام السنة معروف حتى أيام الرسول صلى الله عليه و سلم، أوليس الناس آنذاك يحسبون الشهور؟ و الشهر يعرف بالأيام و دورة القمر و السنين معروفة لديهم، و عدد الأشهر معروف لديهم، و بالتالي عدد الأيام في السنة معروفة أيضا!! فما هو الشيء العجيب في توافق العدد؟؟
أيضا الثقوب السوداء!! الخنس الجوار الكنس!! صحيح أن الدلائل الحالية كلها تجعلنا واثقين من وجود الثقوب السوداء. و لكن هناك مفهوم خاطى جدا عن الثقوب السوداء و شائع جدا بين الناس. أولا القارئ لهذه الأية قد يتصور أن الأجرام المقصودة تجري و “تبتلع” كل ما يجاورها. و هذا ليس الأمر بالنسبة للثقوب السوداء. فلو افترضنا أن الشمس تحولت إلى ثقب أسود فإنها لن تبتلع كواكب المجموعة الشمسية -على عكس المفهوم الشائع- لأن كتلتها تبقى كما هي و إن انهصرت في حجم صغير جدا يكاد ينعدم. و لا تبدأ الجاذبية في التعاظم إلا بعد ما يسمى أفق الحدث للثقب الأسود. و الأمر أعمق و أعقد مما ذكرته هنا. فلا يحق لشخص غير متخصص أن يبني تفسيراته على معلومات و تصورات خاطئة أو غير مكتملة في الأصل.
خلاصة الكلام :
يجب أن لا نبالغ في -الفرح و الحماس- بدون ترو و حكمة، فنحن في زمن وصل فيه العلماء من العلم و المنطق إلى مراحل متقدمة جدا أقل خطأ أو مبالغة ساذجة قد تعطيهم انطباع خاطئ عن القرآن و الإسلام ككل. وهم في بلادهم ذوي مكانة و صوت مسموع. يكفي أن الأخطاء الإجتماعية و السياسية الموجودة في المجتمعات الإسلامية يتم إسقاطها على الإسلام و تعاليم القرآن. فما بالك عندما تخرج بأمور تندرج ضمن السذاجة و الهراء أو الكذب و الافتراء و تدعي أنها في صلب الإسلام و القرآن!!! الدعوة إلى الله بهذه الطريقة يجب أن يدرسها علماء الشريعة لأن بعضها قد يكون فيها ابتداع جديد في الدين و افتراء ربما يؤدي بصاحبه إلى الذنب لا الأجر. قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا” الآية. فما بالنا بمن يأتينا بقول عن القرآن أو حتى يقول عن نظرية ما أنها حقيقة و هو ليس متخصص، أو متخصص و لكنه يبالغ. المسألة تحتاج إلى اتفاق عدد كبير من العلماء المسلمين و غير المسلمين على أن الأمر الذي بين يدينا هو حقيقة علمية، و أن ما ورد في القرآن يمكن أن نفسره من خلال تلك الحقيقة إذا رأى أهل التفسير و العلوم ذلك.